:

بائعة الشاي .. سفر بلا طريق   

top-news

الإعلامي/الزبير نايل يكتب:

 الزمان انتصاف نهار شتائي منزوع البرودة في يناير العام الماضي بتوقيت أم درمان .. المكان جوار كلية التربية جامعة الخرطوم.. على طرفي شارع الوادي باعة جائلون يبيعونك بضاعة أغلبها مغشوشة ومنتهية الصلاحية لكنْ لا يكترث لذلك أحد فالناس هنا متوكلون على الله..

سماسرة عقارات وسيارات يغلظون في القسم وهم يحدثون زبائنهم بصوت فيه ثقة زائفة، وغير بعيد منهم في الجهة المقابلة يرقد في العالم الآخر بمقبرة أحمد شرفي أناسٌ كثيرون لو وجدوا سانحة لقدموا لهم النصح بتوخي الرزق الحلال لأن أسئلة قاسية تنتظرهم عن كل قرش كسبوه.

في مصلحة الأراضي أطياف من البشر  يتزاحمون عند نافذة ضيقة تكتم الأنفاس..  بعد جهدٍ سلمت أوراقي وجلست منتظرا … ولأن الساعات كانت تتساقط من معصمي حاولت للمرة الرابعة مراجعة الموظف الذي يبدو أن عليه نَذرا لعذابي واختبار قوة أعصابي.. نظر إليَّ من فوق عدسة نظارته السميكة وحدثني من تحت أضراسه (أصبر يا أخينا الدنيا ما طايره).. أدري أنها ليست طائرة لكن شررا بدأ يتطاير من عيني لأنه كان كذوبا ومراوغا فقد أضاع ملفي وسط تلال الأوراق ويبحث له عن مخرج من هذا الشخص المتذرع بالصبر الجميل … 

خرجت لأفرغ غضبي المكبوت عند بائعة شاي جالسة تحت (رقراق) عريشة نصبتها عشوائيا ، طلبت منها كوب شاي عليه زنجبيل.. من واقع تجاربها مع الذين يخرجون من ذاك المكان سألتني: ( مالك زعلان) بتتسهل قول بسم الله الدنيا دي (عاوزه صبر).. والتفتتْ على سائق عربة كارو (سكرك كيف يا حاج) …

واصلت حديثها وهي تحرك ملعقة الزنجبيل في كوب الشاي: (يا ولدي البلد دي حالها بقى مايل..النفوس ما زي زمان..الناس طمعت واتغيرت وكتر الغش والخداع.. العوج كتير والحكومة ما عندها هيبه أي زول شغال على كيفو ..ناس بتكلموا إنو الدول البره دي طمعانه فينا لكن يا ولدي مصيبتنا بتجي من جوه بس نقول الله يكضب الشينة)… 

خرجت أتنفس من ضيق مكتب الأراضي فوجدت فضاء بائعة الشاي أكثر ضيقا.. انكمشتْ دواخلي وضاع طعم الزنجبيل في لهاتي ..حدقت في الأفق الرمادي وتيقنت أن البلاد في أزمة عميقة وأن قادم أيامها لا يبشر بخير ..سائق الكارو كان يتابع حديثنا شاخص العينين وقد تجمعت قطرات عرق على جبينه.. تحت إصراري أخذت مني قارئة الفنجان أو زرقاء اليمامة بصعوبة ثمن الشاي.. عبأت عينيَّ من تفاصيل وجهها المهموم ونهضت من مكاني تاركا ورائي تنهداتٍ وبقيةً من كوب الشاي..

هل لديك تعليق؟

لن نقوم بمشاركة عنوان بريدك الالكتروني، من اجل التعليق يجب عليك ملئ الحقول التي امامها *