:

مِنْ ليالي المُغتربين..! 

top-news




كتب: عبد الله الشيخ

مع أن صديقي الخرطومي عبد الماجد عليش، لم يجرِّب الغربة كثيراً إلا أنه، و بعد زيارة خاطفة إلى أبوظبي، عاد يحدثني عن «أعراض جانبية» للغربة على المغتربين.. من تلك الأعراض التي يذكرها: تساقط الشعر، السمنة الزائدة، حركات غير طبيعية مثل أن يبكي المغترب فجأة، أو يضحك فجأة، دون بواعث تستحق كل ذاك العناء..! بالإضافة إلى أن المغترب لا يتعرف على أفراد العائلة إلا بعد خمس دقائق من التحديق المستمر، مع أنه ــ أي المغترب ــ يفقد الإحساس بالأشياء من حوله شكل تدريجي»..إلخ.

ومع إيماني العميق بأن صديقي الأثير عليش، من أهم الفلاسفة الذين ظهروا فى عهد الإنقاذ ، إلا أن زاويته الخرطومية «العاصمية» في قراءة الظواهر، تُغَبِّشْ عليه المشهد كثيراً.. ومنذ البداية، ترى الفرق.. فهو يرى ما يرى، كأعراض للغربة، مع أن ذاك الشيء مرضٌ، وربما أكثر من ذلك..! فأول ما يُصاب به المغترب السوداني من «أورام نفسية» هو تفاقم الشجن لديه، ففي ليالي الغربة المطيرة على وجه الخصوص، يحاول المغترب الأعزب أن يصنع من كثافة الشجن، يصنع لنفسه حبيبة من «طِراز الحَبِيبات الوَفيَّات»، يبث لها أشواقاً من تحت البطانية، ويناجيها داخل السياق، حتى يبلغ التناجي نهاياته المُحددة سلفاً بعبارة إسحق الحلنقي: أنا سافرت عشانك إنت»..! يقول بها في مناجاته، وهو على يقين أنه سافر مُغاضباً، أو ضائقاً ذرعاً، أو مقهوراً، يُمَني نفسه بالانتقال ــ مستور الحال ــ من صف الإهمال، إلى صف أهل المال..!

ومع أن المغترب ــ الذي نحن بصدده، لا غير ـــ قد أضاع وقتاً ثميناً، واخترع من بنات أفكاره أُنثى من «طِراز الحَبِيبات الوَفيَّات»..! إلا أنه حين يعود، لا يعود إلا ليثأر، أو ينتقم ..! لا يعود إلا ليلعب «الفاينال» على حساب حبيب وفي، قاعد في البلد، ينتظر زوال نظام الإنقاذ بين اليوم وغدٍ..! 

يعود المغترب و في ذهنه مؤامرة كبرى لـ«نشل» أجمل فتاة في الحلة من خطيبها، ويلعب بدراهمه رأساً مع ذلك الشاب المُستظِل بعمود النور..! وفجأة تنقلب عليه أطايب النِعَم، فيكون ملعب الحي ملعبه، و جمهور المتفرجين جمهوره.. وما جمهوره إلا نساء الحي، وما الكأس التي يرغب فى رفعها إلا تلك الأُنثى من عذارى الحي..!

وفي بحثه الدائب عن هدأة في ليل الغربة العنيف، يجد المغترب لنفسه العذر، في استراحة تروي الظمأ، إذا ما لقي على منضدة الظلام المُضاء بالكهارب، «كأساً مترعةً، أو طلحِ نضيد» والعبارة التى بين قوسين، لك أن تفهمها كما تشاء..!

وإن كانت الأقدار قد ساقته إلى بلدٍ نفطي ــ السعودية مثلاً ــ فهو لا شك سيتأثر بكلام البوادي، فيأتيك بكلام أشتر، كأن يقول لك «أبْشِرْ» وأنت في الهجير حيث لا بشارة، أو«حيَّاك الله» وأنت بين نارين..!

أما إذا كانت مَهاجر المغترب بعيدةً جداً في نواحي لندن أو واشنطون، فأجارك الله، إذا لقيت مغترباً من تلك المناطق يُحدثك في شؤون السياسة بعبارات قاطعة مثل «دفنتلي»، التي تعني، في ما تعني مقارباته الخاصة لزقزقة أسراب الطير في فضاء الله الواسع..! 

ومن مصائب الغربة على السوداني، أنه كلما أترعت عليه الأيام بحِزمٍ من الدولارات، بدأ في حساب ما يعادلها بالجنيه السوداني، وهذا طبعاً حساب يومي، وأصعب ما فيه شحاتيف السِعر.. فإذا كان الدولار بتسعة جنيهات وكذا قرش، تجد المغترب يحسب ــ بدقة ــ محصلة القرش من الناتج الإجمالي، وعينه على أي تصريحات لوزير الدفاع حول الوضع العسكري في مناطق العمليات..!

هل لديك تعليق؟

لن نقوم بمشاركة عنوان بريدك الالكتروني، من اجل التعليق يجب عليك ملئ الحقول التي امامها *