:

البديل برس تنفرد بصورة نادرة للاديب المرحوم الطيب صالح كانت عام 1948. و تبحر في روايته - نخلة على الجدول

top-news
شركة شحن


(عشرون جنيها يا رجل، تحل منها ما عليك من دين، وتصلح بها حالك. وغدا العيد، وأنت لم تشتر بعد كبش الاضحية ! واقسم أنني لو لم أرد مساعدتك، فان هذه النخلة لا تساوي عشره جنيهات )وتمايل حمار حسين التاجر في وقفته. ولم يكن صاحبه قد ترجل عنه، فانه لم يرد ان يظهر لشيخ محجوب تلهفه على شراء النخلة ذات البنات الخمس، التي يسميها السودانيون في الشمال (الاساسق)، وقد قامت وسطها النخلة الأم، ممشوقة متغطرسة، تتلاعب بغدائرها النسمات الباردة التي هبت من الشمال تحمل قطرات من مياه النيل. ورأى الحمار الأبيض البدين حمارة أنثى ترعى من بعيد بين سيقان الذرة. فنهق نهيقا أجهش ممتدا، تم رفع رجله الخلفية اليسرى ووضعها، ورفع رجله الأمامية اليمنى ووقف في حافة حافره، وتشاغل بخصل من نبات (السعدة) الريانة التي نمت على حافة الجدول وكأنه قد تبرم بهذه المساومة التي لم يكن ورائها طائل. والحق أن حسين التاجر، بثيابه البيضاء الفضفاضة، وعباءته السوداء التي اشتراها في زيارة له للخرطوم، وعمامته من (الكرب) نمرة واحدة، وحذائه الأحمر التي لم تخرج أيدي صناع _(المراكيب ) في الفاشر أجود منه، وحماره الأبيض البدين اللامع ، والسرج الأحمر المذهن، والفروة البنية التي تدلت وكادت تمس الأرض ، كانت صورة مجسمة للكبرياء والغطرسة.ولكن شيخ محجوب لم يحر جوابا، وكان يبدوا في وقفته تلك كالمشدود، يرنو إلى أفق بعيد متناه. ورويدا رويدا خفتت في أدنه ضوضاء (أهل الخير) الذين جاؤوا ليتوسطوا بين التاجر وشيخ محجوب، وخفت صوت الساقية الحزين المتصل.ولف ضباب الذكريات معالم الأشياء الممتدة أمام ناظري شيخ محجوب. الناس والبهائم وغابة النخيل الكثة المتلاصقة، وأحواض الذرى الناضجة التي لم تحصد بعد، والأحواض الجرداء العارية قطعت منها الذرة، وسرحت على بقاياها قطعان الضأن والماعز. كل ذلك تحول إلى أشباح يتراقص في وسطها جريد نخل محجوب. وفي اقل من لمحة الطرف استعرض الرجل حاضره. أجل، غدا عيد الأضحى حينما يخرج الناس مع شروق الشمس في ثيابهم النظيفة البيضاء الجديدة، ويصلون مجتمعين على مقربة من ضريح الشيخ صالح. وإذ يعودون إلى بيوتهم تنضح وجوههم بالبشر والسعادة، وتسيل دماء الأضاحي، ويقبل الأضياف ويخرجون، ويتردد في الحي صدى ضحكاتهم أما هو ... أما بيته ...؟ انه لا يملك توبا نظيفا يخرج به إلى الصلاة، وليس عند زوجته غير " ثوب زراق" اشتراه لها قبل شهرين نال منه البلى وتراكمت عليه الأوساخ. أما ابنته خديجة فقد كادت تفتت قلبه ببكائها من اجل ثوب جديد تعرضه على والدتها وتعيد به مع صاحباتها. ومن أين له جنيهات ثلاثة يشتري بها خروفا يضحي به؟وتمتم شيخ محجوب في صوت لا يكاد يسمع، شيئ يشبه التوسل والابتهال: (يفتح الله) وزم شفتيه في عصبية، وعاد بعقله خمسة وعشرون عاما إلى الوراء. إلا ما أعجبه تقلبات هذا الزمن لقد كان يومئذ شابا قويا أعزب لم يبلغ الثلاثين بعد، يعمل في ساقية أبيه مقابل كسوته وشرابه. فلم يكن يحتاج إلى المال، ولم يكن له قيمة. وفي ذات صباح مشرق من أصباح الصيف، مر بابن عمه إسماعيل، وكان الأخير منهمكا بقلع الشتل ليغرسه في أماكن أخرى من ارض الساقية. ووقع نظر محجوب على شتلة صغيرة رماها إسماعيل بعيدا، على إنها خالية من (الأضراس) لا تصلح. فالتقطها محجوب ونفض عنها التراب، وقال لابن عمه ضاحكا: باكر تشوف دي تبقى تمرة زي العجب *. وتبسم إسماعيل في سخرية، واستغرق في عمله. وعلى حافة الجدول وقريبا من الساقية، شق محجوب حفرة صغيرة ووضع فيها (النخيلة) وواراها التراب وفتح لها الماء بعد ا ن تلا آيات من القرآن وردد في شيء من الخشوع. (بسم الله ، ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، مثلما يفعل أبوه كلما غرس شتلة أو حصد نبتا. ولم ينس أن يصب في الحفرة قليلا من ماء الإبريق الذي يتوضأ بها أبوه تيمنا وتبركا.وانتزع محجوب غصة صعدت في حلقه، تم مرر أصابع يديه النحيلة المعروقة بين شعيرات لحيته المتفرقة. إلا ما كان أبرك ذلك العام! بعد ستة أشهر فقط من غرس (النخيلة) تزوج ابنة عمه، ولم يكن يملك من مال الدنيا شروى نقير. ولا هو يدري إلى الآن كيف تمت المعجزة. انه لم يكن يظن أبدا انه سيتزوج في يوم من الأيام، وهو الذي عاش أيام صباه منبوذا محتقرا من أهله مجفوا من الحسان، يتهمه كل احد بالغباء والخيبة. وطالما ترنم وهو يخوض الماء في لذعة البرد، عاري الرأس عاري الصدر:
(الدنيا بتهينك والزمان يرويك
وقل المال يفرقك من بنات واديك
غير انه تزوج، ولبس حريرة العرس، وتمسح بالدلكة، ووضع على رأسه الضريرة، وأحاطت به الصبايا يهجزن بالأغاني. ولكم شعر بالعظمة والكبرياء وقتها. كل ذلك بعد غرس النخلة بستة أشهر وفي العام التالي ولدت زوجته بنتا اسماها آمنة تيمنا بمقدمها، ووفاء لذكرى جدته التي كانت تعطف عليه من بين أهله جميعا، وحينما وصل به تيار الذكريات لمولد آمنة، ترقرق في عينيه الدمع. اين الان آمنة؟ انها زوجة لابن أخته، الذي حملها إلى أقاصي الصعيد في الجزيرة، وقد كانت تبره وتعطف عليه.
ليت حسن كان مثلها عطوفا بارا . حسن! وعض الرجل على شفته السفلى بعنف حتى كاد يغرس أسنانه في لحمها المتهدل. حسين ابنه الوحيد، سافر قبل خمسة أعوام إلى مصر، ومن وقتها لم يرسل لهم حتى خطابا واحدا يطمئنهم فيه عن صحته. لقد حاول الرجل جاهدا أن ينساه، ويمحوه من ذاكرته، ويعده من الأموات. وكانت زوجته تبكي كلما ردد محجوب في صوت حزين متهدج بيت الدوبيت الذي كان له خير سلوى، كلما جاشت بنفسه الذكرى، وكلما تمثل ابنه طفلا صغيرا حلوا يبول في حجره، تم صبيا يساعده في أعمال الساقية، تم شابا يافعا يشب عن الطوق، ويهجر الأهل والدار، وينسى حقوق الأبوة ، ولا يسأل عن الأحياء ولا الأموات. أجل والله-( الزول ا ن اباك خليه واقنع منه، وكم لله من دفن الجنى وفات منه).
وكأن القدر أراد أن ينسيهم كل شيء يربطهم بحسن، فرمى آخر ما في جعبته من سهامه قاسية مسمومة ظل يسددها مند عامين، تباعا ودون توقف. وأصاب السهم الأخير النعجة ( البرقاء) التي رباها حسن، وجمع لها الحشيش وأشركها طعامه وانامها فراشه.

شركة جريس لاند لخدمات الشحن المختلفة

هل لديك تعليق؟

لن نقوم بمشاركة عنوان بريدك الالكتروني، من اجل التعليق يجب عليك ملئ الحقول التي امامها *